المناضل المرحوم فرج بن سالم جمعة*







"قاوم الاستعمار والجهل وساهم في وضع أوّل دستور للجمهورية التونسية"

ولد المناضل فرج بن سالم جمعة في 1 أكتوبر 1913 بطبلبة لأب كان يعمل نجارا. وبعد أن حفظ القرآن الكريم بالكتّاب، ومبادئ اللغة العربية التحق بجامع الزيتونة المعمور إلى أن تحصّل على شهادة التحصيل في العلوم الشرعية في 17 جويلية 1936. وكان طيلة مدّة تحصيله للعلم يعمل أيّام العطل كنسّاج لتغطية مصاريف التعليم بجامع الزيتونة من أجل الكرع من مناهل العلوم والحصول على تلك الشهادة.
ثمّ انخرط في سلك التعليم بالمدارس القرآنية منذ سنة 1938 وبقي يدّرس بهذه المدارس مدّة 14 سنة بين مدرسة الحاج عليّ صوّة بقصر هلال (المدرسة القرآنية "الهلال" من سنة 1938 إلى سنة 1946) والمدرسة الابتدائية القرآنية للذكور " الهداية" الكائنة بروضة آمنة ابراهم ونادي الأطفال قبل هدم مقرّها. وقد ساهم المناضل المرحوم فرج بن سالم جمعة مساهمة فعّالة في تأسيسها وبنائها بمقرّها الأصلي بزاوية " سيدي بن عيسى" التي أدخل عليها الأهالي إصلاحات وأحدثوا بها ثلاث غرف ومكتبا للمدير والتي فتحت أبوابها لأوّل مرّة في 12 نوفمبر 1946 كما كان أوّل من درّس فيها وأوّل مديرا لها.
انخرط المناضل المرحوم فرج بن سالم جمعة في صفوف الحزب الدستوري الجديد منذ سنة 1938 وأصبح عضوا بالشعبة الدستورية بطبلبة ثمّ كاتبا عاما لها من 1939 إلى 1952 كما تحمّل نيابة رئيس الشعبة الدستورية في نهاية الخمسينات. وأمينا عاما للجامعة الدستورية بالمهدية. وكان على اتصال بزعماء الحركة الوطنية أمثال الباهي لدغم ومحمد المصمودي والمنجي سليم حيث كان ينسّق بين الزعماء السياسيين والمقاومين.
انقطع المناضل المرحوم فرج بن سالم جمعة عن التدريس وبقي مختفيا عن أعين المستعمر لاعتباره كان مطلوبا من قبلها لاتهامه " بالمشاركة في إشعال نيران الثورة بطبلبة والاستيلاء على الأسلحة" مدّة سنتين قضّاها بعيدا عن أهله وزوجته وأطفاله هائما على وجهه متنقلا بين البقالطة وطبلبة وصيادة وتونس ( من جانفي 1952 إلى غرة فيفري 1954 ) و" قد اختبأ المناضل المرحوم فرج جمعة في البداية ب"مجر" دار حسن بن ريانة بشط "دار بريانة" قرابة أسبوعين، فخرج منه عليلا إذ أصيبت اللوزتان ولمّا لم يعالج الأمر في الإبان أقر ذلك في شرايينه...وهو ما كان سبب وفاته. وقد اختفى بعد ذلك في البقالطة ثمّ لدى عمّته بصيّادة (آل شقرون) فتونس عند صديق من قصرهلال من (آل بوزويتة)". وفي 8 مارس 1954 ألقت القوات الاستعمارية عليه القبض وبقي في سجون المستعمر قرابة السنة والنصف. يقول مستعرضا الظروف العصيبة التي عاشها أيّام الكفاح المسلّح ضمن مكتوب إلى وزير المعارف بتاريخ 20/2/1957 :"...وفي 23 جانفي 1952 تعلّقت بي تهمة المشاركة في إشعال نيران الثورة بطبلبة والاستيلاء على الأسلحة وأرادت السلط الاستعمارية العسكرية إلقاء القبض عليّ فشعرت بذلك واختفيت وفارقت التعليم وأخذت أقاوم في السرّ من جهة وأرسل إلى إدارة التعليم من مكان مجهول طلب الاسترخاص عن العمل بدون مرتّب من جهة أخرى وكانت السلط العسكرية في ذلك الوقت تفتّش عليّ في كلّ مكان فلم تتمكّن من العثور عليّ وبقيت هكذا من 23 جانفي 1952 إلى غرّة فيفري 1954 وفي 8 مارس 1954 ألقي عليّ القبض ودخلت السجن. وقد منحتني وزارة التعليم مرتّباتي من 8 ماي 1954 إلى يوم رجوعي للعمل...".
وبعد إطلاق سراح المناضل المرحوم فرج جمعة رجع إلى إدارة بمدرسة "الهداية" بطبلبة الكائنة بالمدرسة القرآنية في 5 أكتوبر 1955 إلى سنة 1960 تاريخ نقلته الى مدرسة "مونداس فرانس" ب"ميتويال فيل" بتونس إلى جوان 1968. ثمّ رجع بنفس خطته كمدير بمدرسة " البنات" بطبلبة الذي لم يباشر بها العمل إلاّ 15 يوما فقط حيث توفي رحمه الله يوم 17 أكتوبر 1968.
وفي مارس 1956 أنتخب المناضل المرحوم فرج جمعة في أوّل انتخابات عرفتها البلاد التونسية عضوا بالمجلس القومي التأسيسي ضمن قائمة الجبهة القومية عن الحزب الحر الدستوري الجديد، وضمن المجلس أنتخب عضوا بلجنة السلطة التنفيذية التي اهتمت بإعداد مشروع بنود الدستور المتعلقة بنظم أداة التنفيذ.
وكتب الأستاذ الطاهر بوسمة بالموقع الالكتروني "الصريح online" في 10 سبتمبر 2018 مقال بعنوان "رجال من طبلبة عرفتهم" جاء فيه:" اخترت لكم اليوم المرحوم فرج جمعة رجل التربية والتعليم والنائب في المجلس التأسيسي الاول الذي سن دستورا للجمهورية التونسية وكان كاتبا عاما للشعبة الدستورية بطبلبة وأمينا عاما للجامعة الدستورية بالمهدية.
ولد في عائلة محدودة الدخل وحفظ ما تيسر من القران الكريم وانخرط في التعليم الزيتوني وتخرج منه بشهادة التحصيل وعمل في سلك التعليم الابتدائي كمعلم عربية بمدرسة الحاج علي صوة القرآنية بقصر هلال وقضى فيها اكثر من عشرة أعوام... اما في طبلبة موطنه الأصلي الذي ولد فيها ونشأ وحسب علمي فكانت له سمعة حسنة وجرأة ومساهمة معتبرة في المجتمع المدني الذي بدأ يظهر في نشر التعليم والتصدي للمستعمر الذي كان آخذا في التغلغل، ويعود له الفضل في إدارة مدرسة الهداية القرآنية التي افتتحت ابوبها في خريف 1946 في فضاء مؤقت بسيدي ابن عيسى الكائن بباب الخوخة القريب جدا من مسكن عائلتي التي تقطن بالحي نفسه.... أما ما علمته عنه فيما بعد غيابي عن طبلبة، انه كان من الفاعلين في معركة التحرير الأخيرة واتُهم مع عدد من المناضلين بأحداث 23 جانفي 1952 التي وقعت بطبلبة اثر ابعاد بورقيبة وما جرى فيها وأدت الى استشهاد ثمانية من خيرة الرجال والنساء برصاص العسكر الذي تم منعه من المرور من طبلبة وهو ذاهب الى المهدية في معركة حامية استعمل فيها الرصاص الحي والقنابل المصنوعة محليا.
كانت تلك المعركة هي الأولى التي تقع في تونس بعد قطع المفاوضات مع فرنسا وتحديد إقامة الزعيم بورقيبة بطبرقة ولاقت تلك الاحداث صدى عالميا في الصحافة الفرنسية وإذاعة لندن المسموعة وقتها كثيرا وتعرضت بعدها طبلبة الى عملية تمشيط وإيقاف المشتبه فيهم وفتح البلدة للفيف الأجنبي ليعيث فيها فسادا بعد تجميع كل البالغين من الرجال في معسكرات أقيمت مؤقتا لمدة ثلاث ايّام بلياليها في عز الشتاء وبدون اكل او اغطية او بساط وإطلاق الكلاب المدربة تنهش لحم هؤلاء المساكين تحت نظر وقهقهة العسكريين. في تلك الأجواء المشحونة اختفي صاحبنا فرح جمعة عن الأنظار لمدة توقيا من ردة فعل السلطة الفرنسية وتعرضت وقتها عائلته للترويع والإيقاف في مراكز الجندرمة الفرنسية وهو ما اضطره لتسليم نفسه أخيرا طوعا اين تم ايقافه والحكم عليه بالسجن لعدة سنين ولم يخرج الا بعد اعلان فرنسا لحق تونس في تقربر المصير وحكم نفسها بنفسها عملا بما تقرره المواثيق الدولية.
تم اختياره بعد الاستقلال مرشحا ضمن قائمة الوحدة القومية للمجلس القومي التأسيسي عن طبلبة وفاز فيها وتعهد بالتوازي بالكتابة العامة لجامعة الحزب بالمهدية التي كانت تعود بالنظر اليها طبلبة في التقسم الاداري وباشر مهامه بالمجلس القومي التأسيسي بعد انتخابه فيه وشارك في كتابة الدستور وتغيير نظام الحكم الملكي الى جمهوري.
ولكنه لم يرشحه حزبه للانتخابات الثانية بالرغم من نشر اسمه رسميا في جريدة العمل لسان حال ذلك الحزب لأسباب وتوازنات محلية ووطنية حزت في نفسه وخير من وقتها العودة للتعليم مهنته الأصلية التي كان يحبها كثيرا، ولكن ذلك أبقى في نفسه حسرة لأنه ظلم بدون سبب يذكر ونسي من وقتها السياسة مكتفيا بإدرة مدرسة ابتدائية بباب منارة قبل ان ينتقل منها الى مدرسة ابتدائه أخرى بساحة منداس فرنس بالعاصمة بنفس الخطة، وبذلك حرمت طبلبة من حقها المشروع في النيابة.... أما صاحبنا المترجم له فقد مرض بالقلب لمدة وتوفي صغيرا وترك عائلة تتركب من خمسة أولاد أكبرهم الحبيب الذي كان يدرس في العالي بينما اخوته الصغار ما زالوا بين الثانوي والابتدائي، وأما بناته الثلاثة فكانت أكبرهن زوجتي المفضلة التي رأت وعاشت كل تقلبات السياسة وما جرى لأبيها فقد رافقتي في مسيرتي كلها الطويلة وكرهت مني المجازفة والعمل في تلك المهام الدقيقة، ولكنني لم أرها يوما تبكي مثلما بكت عندما أعلمتها بنيتي القبول بالترشح لمجلس الأمة عن طبلبة لدورة وحيدة 81/1979 وعادت بها الذاكرة لما حصل لأبيها من جحود بالرغم مما ناله زمن الكفاح من إبعاد وسجن وتغريب تحملته مع والدتها المرحومة بصبر وعزيمة لكنه بعدها تم تناسي المترجم له وتقدم غيره للحكم والريادة ممن لم يكن يسمع بهم أحد زمن الشدة..."
لطفي جمعة (تحيين 21 نوفمبر 2020)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر بجريدة "الشروق" العدد 5715 السنة 17 ،الخميس 3 أوت 2006 ص 15

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال